مرحبا بكم في موقع مكتبة الكويت ( المكتبة هي معبد المعرفة ومنارة الفكر بين رفوعها تتقاطع الافكار وتتلاقي العصور ) الحجز والاقتراحات واتساب 50300046 الشحن الي جميع المناطق ...
طفل الرمال متوفر
التصنيف : روايات مترجمة
دار النشر : المركز الثقافي العربي
الطاهر بن جلون
"لقد تقوّس ظهره قليلاً وارتخت كتفاه بشكل مشوّه، فصارت ضيقتين ورخوتين، غير صالحيتين لإسناد رأس حبيب أو يد صديق. كان يحسّ بثقل يصعب تحديده ينيخ على القسم الأعلى من ظهره، وكان يمشي محاولاً النهوض والانكفاء. كان يجرجر قدميه، مستجمعاً جسده، مقاوماً بشكل داخلي حركة التشنجات العضلية التي لا تهادنه. وبينما لم يكن أي شيء يسمح بارتقاب تطور مماثل، تفاقم الوضع بغتة. كان الأرق قد صار تشويشاً عادياً للياليه، لكثر ما بات مستديماً لا يقهر. ولكن منذ أن باعدت بينه وبين جسده القطيعة، أو نوع من التشفق، شاخ وجهه وغدت مشيته مشية معاق. لم يتبقَ سوى الركون إلى عزلة مطلقة. وهو ما سمح له بالإحاطة بمجمل ما جرى والتحضير لرحيله النهائي نحو إقليم الصمت الأعلى. كان يعرف بأن موته لن ينجم عن سكتة قلبية أو عن نزيف مافي الدماغ أو في الأمعاء. وحده حزن عميق، نوعٌ من الأسى أودعته إياه يدٌ خرقاء، سيعمل أثناء نومه دون ريب على وضع حدّ لحياة كانت استثنائية فحسب؛ حياة ماكان يمكن أن تحتمل السقوط في تفاهة حياة يومية عادية بعد أعوام ومحن عديدة. سيكون موته في مستوى الرفعة التي كانتها حياته، ولن يختلف عنها سوى في أنه سيكون قد أحرق كل أقنعته، سيكون عارياً، عارياً تماماً، دون كفن، ملتصقاً بالأرض التي ستخترم أعضاءه تدريجياً حدّ إعادته إلى نفسه، داخل الحقيقة التي كانت بالنسبة إليه عبثاً دائماً. في اليوم الثلاثين لاعتزاله، بدأ يرى الموت يكتسح غرفته. كان يَحدُثُ له أن يلمسه ويبقيه بعيداً عنه كما كان يفهمه بأنه حلّ قبل الأوان وأنه لا يزال عليه أن يسوي بعض الأمور المستعجلة. كل يتمثل له في لياليه على هيأة عنكبوت رخودة متربصة، عنكبوت منهكة ولكنها لاتزال نشيطة. وكان يتصور بعد ذلك يدين قويتين – ربما معدنيتين – تنزلان من الأأعلى وتحتجزان العنكبوت الرهيبة؛ فتريحانها من أمامه، ريثما ينهي أشغاله في الفجر، كانت العنكبوت تختفي. كان يلغي نفسه وحيداً، محاطاً بأغراض قليلة، جالساً يعيد قراءة الصفحات التي كتبها بالليل. وكان النوم يأخذ بمعاقد جفنيه في الصباح. ذات يوم سمع أحدهم يقول بأن شاعراً مصرياً برّر تدوين اليوميات بما يلي: "مهما شطّ مكان مجيئنا، فإنه لن يكون سوى نفسنا. أحياناً تكون اليوميات ضرورية لكي نقول بأن وجودنا توقف." وهذا هو بالضبط ما كان يروم: أن يقول بأن وجوده قد توقف. ومن كان؟ انبجس السؤال بعد صمت مأهول بالحيرة أو الانتظار. أخرج الراوي المتربع على الحصير دفتراً كبيراً من محفظة له وأراه للحضور. في هذه الصفحات يرقد الاسرّ منسوجاً بمقاطع لفظية وصور لقد عهد به إلي قبيل وفاته. وجعلني أقسم بألا أفتحه إلا بعد انصرام أربعين يوماً على رحيله، ريثما يموت تماماً. أربعون يوماً نلزم نحن فيها الحداد ويسافر هو خلالها في عتمات الأرض." وهكذا حقق الراوي لصاحب هذه الحكاية محمد أحمد ابن الحاج أحمد بطل هذه الحكاية، أمنيته وفتحها ليلة الواحد والأربعين.. فغمره عطر الجنة، عطرٌ كان من القوة بحيث أشرف على الاختناق. قرأ الجملة الأولى ولم يفهم شيئاً... وقرأ الفقرة الثانية.. ولم يفهم شيئاً.. ولكنه وعندما قرأ الصفحة الأولى بأكملها استنار.. وأخذت دموع الدهشة تنساب على وجنتيه تلقائياً. وعلم بأنه يحوز الكتاب النادر، كتاب السرّ المعبور بحياة قصيرة وكثيفة، المدوّن غبّ ليل المحنة الطويلة.. وقد قرأ هذا الكتاب وفكك مغاليقه لمن حوله من الحاضرين الذين هم في لهفة على معرفة مافيه.. معرفة سر محمد أحمد ابن الحاج أحمد.. وقصته التي تحفر مهدها في جسد الراوي وروحه.. والذي لم يعد باستطاعته الفكاك منها.. قصة طالعة من بعيد.. عاشت في حميمية الموت.. حكاية تزرع في النفس الحيرة.. وسؤال يتردد بالحاج: هل يملك الإنسان تلك القدرة على إخفاء حقيقته حتى عن نفسه... ذلك هو محور حكاية طفل الرمال.. بل هي طفلة الرمال.. تلك الطفلة التي أيى الحاج أحمد إلا جعلها مولوداً ذكراً.. لتعيش هي تلك الحالة حتى الرمق الأخير.. تعيش الحالة بكل تناقضات الأنثى والذكر.. حقيقتها الفعلية.. وحقيقتها الوهمية... حقيقة كونها أنثى.. وواقع وممارسات للتأكيد على أنها ذكر.. يتنقل الروائي ببراعة إلى حدّ يعيش معه القارئ هذا الوهم إلى حد التماهي.. تناسياً مع الراوي أنا الآخر.. وكل شيء... .