مرحبا بكم في موقع مكتبة الكويت ( المكتبة هي معبد المعرفة ومنارة الفكر بين رفوعها تتقاطع الافكار وتتلاقي العصور ) الحجز والاقتراحات واتساب 50300046 الشحن الي جميع المناطق ...
الخليفة المهدي العباسي سياسته الداخلية والخارجية متوفر
التصنيف : تاريخ - اسلاميات
دار النشر : قناديل
سعاد جواد الأنصارى
أمير المؤمنين وخليفةُ المُسلمين أبو عبد الله مُحمَّد المهدي بن عبد الله المنصور بن مُحمَّد بن علي بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المُطَّلب الهاشميُّ القُرشي (127 – 22 مُحرَّم 169هـ / 745 – 4 أغسطس 785م)، المشهور اختصارًا باسمه ولقبه معًا مُحمَّد المهدي أو المهدي، هو ثالثُ خُلفاء بني العبَّاس، والخليفة الثَّاني والعشرون في ترتيب خلفاء المسلمين عن النبي مُحمَّد. بُويع بالخلافة يوم 6 ذي الحجَّة 158هـ / 6 أكتوبر 775م عقب وفاة أبيه الخليفة أبي جعفر المنصور، واستمر خليفةً للمسلمين عشرة أعوام حتى وفاته.
وُلد مُحمد بن أبي جعفر المُكنَّى أبي عبد الله، في قرية إيذج بين أصبهان والأهواز سنة 127هـ / 745م، أثناء تولّي والده إدارة المنطقة لصالح الدَّعوة العبَّاسية. نشأ أبي عبد الله في كنف والده المنصور، وتلقى تعليمًا مكثفًا في الفقه واللغة والأدب، وبرز بفصاحته وذكائه. عايش المهدي منذ صغره انتصار العباسيين في ثورتهم على الأمويين، وشهد انتقال أسرته إلى العراق بعد تأسيس الخلافة العبَّاسية، وأصبح والده المستشار الأول للخليفة الأول أبي العبَّاس السفاح، ثم خلفه أبو جعفر في الحكم بعد أربع سنوات في سنة 136هـ / 754م. بدأ أبي عبد الله أولى مهامه السياسية والعسكرية في سن الرابعة عشرة، حين أرسله والده على رأس جيشٍ لمواجهة المتمرد عبد الجبار الأزدي في الرَّي، ثم تولّى قيادة الحملة العباسية لفتح طبرستان، فنجح في إخضاعها نهائيًا بعد استقلالية كبيرة عن دول الخلافة دامت قرابة 120 عامًا منذ الفتوحات الإسلاميَّة. زادت هذه الانتصارات من مكانة أبي عبد الله في الظهور، حتى بدأ المنصور يُقدمه على قادة الدولة، ولقّبه المهدي آملًا بأنه المقصود في أحاديث مهديُّ آخر الزَّمان، وأخذ له البيعة وليًا للعهد سنة 147هـ / 764م، ثم أعاد أخذ البيعة له عام 158هـ / 775م قبل وفاته.
استهل المهدي خلافته بإطلاق سراح المساجين، ورد المظالم إلى أهلها، واستعادة الأموال المصادرة، مما أكسبه تأييدًا واسعًا بين الرعية، وأتاح له فرض سلطته بسلاسة. اتبع سياسةً أكثر ليونةً من أبيه، فحرص على كسب ود الناس، ووسّع نطاق أعماله الخيريَّة، ليكون أول خليفة يُقر رواتب ثابتة للمحتاجين، شملت العميان والمجذومين والمساجين والفقراء، ما عزز شعبيته بين العامة. شهدت خلافته طفرةً عمرانيةً كبيرة، فأنشأ الطرق والخانات لحماية القوافل التجارية وتسهيل الحج، ووسّع المسجد الحرام توسعةً كبرى، وأمر بإصلاح المسجد النبوي، كما اهتم بتشييد القصور والجسور، مما جعل عصره من أكثر عصور العباسيين رخاءً واستقرارًا.
لم يخلُ عهد المهدي من التمردات، إذ واجه عددًا من الثورات الداخلية، أبرزها ثورة يوسف البرم في ولاية خراسان، الذي سيطر على مناطق واسعة حتى سُحق جيشه وقُطع رأسه بأمر المهدي. وفي ولاية ما وراء النهر، ظهر المقنع الخراساني، مدّعي الألوهية، الذي استطاع اجتذاب أتباع كُثُر بخلطِه بين المانوية والمعتقدات المجوسيَّة، قبل أن يحاصره الجيش العبَّاسي في قلعته، ليُقرر الانتحار مع أتباعه. اندلعت عدة حركات للخوارج في الجزيرة والبحرين وطبرستان، إلا أن جيوش المهدي تمكنت من القضاء عليها واحدةً تلو الأخرى.
واجه المهدي إلى جانب التمردات خطر الزندقة، وهي إحدى أبرز القضايا الفكرية والسياسية التي شغلت خلافته، ونظر إلى الزنادقة بوصفهم تهديدًا مزدوجًا للدولة، إذ لم يقتصر خطرهم على التجرؤ على المقدسات والطعن في أصول الدين، بل امتدّ إلى التحريض السياسي والتآمر على الحكم، مستغلين مناخ الحرية الفكرية الذي ساد في العصر العبَّاسي. أنشأ المهدي ديوانًا خاصًا لملاحقة الزنادقة، وترأسه القاضي عمر الكلوذاني، فألقي القبض على العديد من المشبوهين وأعدم عدد منهم، أبرزهم عبد الكريم بن أبي العوجاء المُتهم بوضع آلاف الآحاديث، وصالح بن عبد القدوس، وبشار بن برد، الذي أُعدم ضربًا بالسياط حتى الموت. أمر المهدي بإحراق كتب المانوية والزندقة، وتضييق الخناق على أصحاب العقائد المنحرفة. ورغم شدته على الزنادقة، إلا أن المهدي عُرف بالتسامح مع المخالفين في الرأي، إذ استشار الفقهاء قبل إصدار الأحكام، وأعطى الفرصة للمتهمين بالتوبة قبل تنفيذ العقوبات.
واصل المهدي سياسة والده المنصور في تحصين الثغور وتقوية الجيوش المرابطة على الحدود على الجبهة البيزنطيَّة، فأرسل عدة حملات عسكرية ضد الرُّوم، وأكبرها الحملة التي قادها ابنه هارون في سنة 165هـ / 782م، والتي وصلت إلى مشارف القسطنطينية، مما أجبر الإمبراطورة البيزنطية إيرين الأثينية على طلب الصلح ودفع الجزية للخلافة العبَّاسية لأول مرة على مدار ثلاث سنوات متتالية. قام المهدي بعد ذلك بتلقيب هارون بالرَّشيد، وعيَّنه وليُّ العهد الثاني بعد موسى الهادي.
عُرف المهدي بجوده وسخائه، حتى قيل إنه أنفق في بعض الأيام عشرة ملايين درهم، ووزّع الذهب والفضة بسخاء على الناس، مما جعل عصره أكثر انفتاحًا ورفاهيةً مقارنةً بعصر والده. كان المهدي محبًا للعلم والأدب، فقرَّب العلماء والمحدّثين، وحرص على سماع الحديث النبوي ومجالسة الفقهاء، مما جعله محبوبًا بين رجال البلاط والعلماء. وفي أواخر حياته، بدأ يميل إلى تقديم ابنه هارون الرَّشيد في ولاية العهد بدلًا من ابنه البكر موسى الهادي، وسار إلى طبرستان بعد رفض الهادي القدوم إلى بغداد، وخلال استراحة المهدي في ماسبذان، توفي يوم 22 محرم 169هـ / 4 أغسطس 785م. صلّى عليه ابنه هارون الرَّشيد، ثم أُرسلت بردة النبي وخاتم الخلافة إلى موسى الهادي الذي تولّى الحكم رسميًا بعده.
يُعد المهدي أحد أبرز خلفاء الدولة العباسية في مرحلة استقرارها، إذ اتسم عهده بالرخاء والازدهار، وشهد توسعًا كبيرًا في المشروعات العمرانية والاقتصادية، إضافةً إلى تعزيز الاستقرار السياسي. مثّل المهدي حلقة الوصل بين عهد والده المنصور الذي تميز بالحزم والتقشف، وعصر ابنه هارون الرشيد الذي شهد أوج الحضارة العبَّاسية، إذ جمع بين قوة الدولة واستقرارها، والترف الذي بدأ يغزو المجتمع العباسي في تلك المرحلة، مما جعل عصره نقطة تحول في تاريخ الخلافة الإسلامية.