مرحبا بكم في موقع مكتبة الكويت ( المكتبة هي معبد المعرفة ومنارة الفكر بين رفوعها تتقاطع الافكار وتتلاقي العصور ) الحجز والاقتراحات واتساب 50300046 الشحن الي جميع المناطق ...
العقل وما بعد الطبيعة متوفر
التصنيف : علوم
دار النشر : التنوير
عثمان أبو الخشت
خلص لنا من الفصل السابق أن عقلنا يدرك الموجودات الطبيعية أولًا بالذات؛ يبدأ بها، ويعلمها في أنفسها كما هي ممثلة في الحواس وفي الذاكرة والمخيلة. والآن نريد أن نبين أن الموجودات الطبيعية ما هي إلا موضوعه الخاص به بما هو إنساني، أي باعتباره عقل نفس متحدة ببدن، وأن له موضوعًا عامًّا باعتباره عقلًا بإطلاق، يجاوز الطبيعة المحسوسة إلى أصولها وشروطها غير المحسوسة، فيمتد إلى مطلق الوجود، أي إلى كل موجود أيًّا كان، وإلى معنى الوجود الكامن في كل ما يتعقل وفي كل فعل من أفعال العقل، وإن لم يكن تعقله في هذا المضمار أولًا بل لاحقًا على تعقل الماديات. ولم يكن بالذات بل كان بالاستدلال، فيصل إلى علم ما بعد الطبيعة الذي لا بد من تعيينه أدق تعيين وتمحيص الآراء فيه، كي نحيط بمجال العقل بأكمله، ونطمئن إلى صحة أفعاله وصدق معقولاته.
فمن جهة امتداد العقل إلى كل موجود، لما كانت المعرفة تشبه العارف بالمعروف تشبهًا معنويًّا كما قلنا؛ فإنه إذا حصل شبه المعروف في النفس محسوسًا كان أم مفعولًا، صارت النفس هي المعروف، لأن لا ماديتها تسمح لها بقبول كل صورة، فتصير مرآة الوجود بانعكاس مختلف الموجودات على صفحتها غير أننا ندرك الروحيات بعد الماديات، ونلقى صعوبة في هذا الإدراك فلا نستطيع أن نُكوِّن عن الروحيات معاني ذاتية أو مطابقة لها، بل ندركها بطريق غير مباشر هو طريق الاستدلال، فنستدل بالمعلول على العلة، وبالعرض على الجوهر، ونتعقل الجوهر الروحي بمعان مستفادة من الماديات، ونعبر عن تعقلنا إياه بألفاظ تدل أول ما تدل على الماديات. هكذا نعرف وجود الله من حيث هو علة وجود العالَم، ونعرف صفاته ضربًا من المعرفة بمجاوزة صفات المخلوقات إلى كمالها الأقصى، وتنزيهه تعالى عن حدودها ونقائصها. ولو صح المذهب التصوري وكان في النفس معانٍ غريزية أو فائضة من عقل أعلى، لَلَزِم عن ذلك أن لدينا معاني ذاتية أو مطابقة عن الموجودات الروحية، وعما يفوتنا إدراكه بالحس من الماديات، وقد لاحظنا أن كلتا النتيجتين باطلتان. وهذا موقف وسط بين الحسية والمحجمة عن مقاربة المعقولات، وبين التصورية الزاعمة أن عقلنا كفء لإدراك المعقولات والروحيات كما هي في أنفسها.
ومن جهة إدراك العقل للوجود بما هو وجود، فإن هذا المعنى أول ما يحصل في تصور العقل؛ ذلك بأن الوجود هو العنصر المشترك بين الموجودات على اختلافها، وبين معلومات العقل، كما أن اللون مثلًا هو العنصر المشترك بين مدركات البصر. إن معنى الوجود أبسط المعاني وأعمها، وهو الوجه الذي يدرك به العقل كل موجود: ففي التصور الساذج يعبر العقل (تعبيرًا يتفاوت وضوحًا) عما هو الشيء أو ماهيته، وفي الحكم يقول العقل قولًا صريحًا ما هو الشيء في ذاته أو بالنسبة إلى غيره، أي يثبت العقل وجود الشيء وفقًا لماهيته فيقول: «الأرض هي كروية» أو ينفي حكمًا يأبى قبوله، والحكم صادق إذا وافق ما هو موجود، أو ممكن الوجود، فإن الممكن ما ليس يحول دون وجوده بالفعل حائل ما ماهيته، بل تلزم له صفاته بقوة ماهيته، وفي الاستدلال إذ يقارن العقل بين المقدمتين يرى فيهما علة وجود النتيجة، وأن الأمر لا يمكن أن يكون بخلاف. وكلما أثبتنا شيئًا لشيء، سواء بحكم واحد أو باستدلال، فنحن نعني أن الأمر هو كذلك في الحقيقة ويستحيل أن يكون غير ذلك. فإثبات وجوب وجود شيء لشيء، وإثبات امتناع عدم وجود شيء لشيء؛ كل أولئك إثبات مبني على ضرورة الوجود، فليتأمل في هذا من قد يجد غموضًا في قولنا إلى الموضوع العام للعقل هو الوجود من حيث هو كلي أو مطلق الوجود. وليتأمل في اللاوجود المطلق والتناقض والامتناع، يجدها أمورًا غير معقولة لا يقابلها معنى ذاتي في الذهن، بل يقابل اللاوجود معنى الوجود المسلوب، ويقابل التناقض معنى الاتساق المقتضي للوجود، ويقابل الامتناع معنى الضرورة أو معنى الإمكان، أعني وجوب الوجود، أو وجوب عدم وجوده، أو إمكانه.